[سعادت حسن مَنتو واحد من أشهر كتاب القصة القصيرة بالأردو وأكثرهم إثارة للجدل. ولد منتو في أيار سنة ١٩١٢ قرب مدينة لودِيانا في أقليم بنجاب (في الجزء الذي أصبح لاحقاً في الهند) وتوفي في كانون الثاني سنة ١٩٥٥ في مدينة لاهور في باكستان. نشر إثنين وعشرين مجموعة قصصية ورواية واحدة بالإضافة إلى سيناريوهات عديدة للسينما والإذاعة. وعمل في الأربعينيات في صناعة الأفلام الهندية في مدينة بومباي (مومباي حالياً) ككاتب سيناريو. لا يوجد له نظير في معالجة جنون التقسيم الذي تعرضت له شبه القارة الهندية أثناء التحرر من الحكم البريطاني سنة ١٩٤٨. فضح نفاق المجتمع أثناء المذابح الطائفية وقت التقسيم عبر تناوله لأكثر فئات المجتمع تهميشاً كالمومسات والقوادين وأكثر المواضيع حساسية كسفاح المحارم واضطهاد النساء. حوكم عدة مرات قبل وبعد الاستقلال بسبب صراحة لغته وفحوى قصصه بتهمة الإساءة إلى الأخلاق العامة. وقال: ”إذا وجدتم قصصي قذرة فذلك لأن المجتمع الذي تعيشون فيه قذر وأنا لا أفعل شيئاً في قصصي سوى فضح الحقائق.“ تعتبر القصة المترجمة أدناه من أروع أعماله وتتناول جنون عملية التقسيم بمعناها الحرفي عبر النظر إلى ما يجري لنزلاء مصح للمجانين وقت تقسيم البلاد إلى دولتي الهند وباكستان.]
توبه تيك سينغ
سعادت حسن منتو
بعد مضي عامين أو ثلاثة على تقسيم شبه القارة الهندية، قررت حكومتا الهند وباكستان أن يتم تبادل المجانين، كما كان قد تمّ من قبل تبادل السجناء العاديين بينهما. نقل المسلمون المتواجدون في المصحات الهندية الى باكستان وفي المقابل، تمّ نقل المجانين الهندوس والسيخ الموجودين في المصحات الباكستانية إلى الهند. في البداية، لم يكن أحد متأكداً من صواب هذه الفكرة. وعلى الرغم من ذلك، ووِفقاً لما قرّره الخبراء، عُقدت مؤتمرات على مستوى رفيع وتم الاتفاق بنتيجتها على تعيين يوم لتبادل المجانين. وبذلت جهود كبيرة في فرزهم، فتقرر إبقاء المسلمين الذين كان لديهم أقارب في الهند في مكانهم. أما من تبقّى فوجب نقله إلى باكستان فوراً. وبما أن جميع المواطنين الهندوس والسيخ كانوا قد رحلوا إلى الهند، أصبح نقل المجانين إلى الهند أمراً بديهياً لعدم وجود أحد يهتم بهم في باكستان. فتم تحويلهم تحت حماية الشرطة إلى نقطة الحدود.
لا نعلم ماذا كانت ردة الفعل في مصحات الهند، ولكن عندما بلغ خبر التبادل مصح مدينة لاهور، دارت نقاشات مثيرة حول الموضوع. على سبيل المثال، عندما سأل مجنونٌ زميلاً مسلماً له كان يقرأ جريدة ”زميندار“١ يومياً منذ اثني عشر عاماً ”يا شيخي، وماذا تكون باكستان هذه؟“ أجابه بعد طول تفكّر وتعمّق، ”هي مكان في الهند تُصنع فيه الشفرات“ فاطمأنّ المجنون الأول بعد سماعه هذا الجواب.
وفي السياق نفسه، سأل مجنون سيخي مجنوناً سيخياً آخر، ”يا سردارجي٢ لماذا يتم نقلنا إلى الهند؟ فنحن لا نفهم لغتهم هناك؟“ فابتسم الأخير قائلاً: ”أنا أفهم لغة هؤلاء الهندوسثور فهم شيطانيون، يسرحون ويمرحون على هواهم.“
في أحد الأيام, عندما كان مجنون مسلم يستحمّ، أطلق صرخة بحماس مفرط وقال ”پاكِستان زِندَه باد."٣ لدرجة جعلته ينزلق ويقع على أرض الحمام مغمى عليه.
لم يكن جميع نزلاء المصحات مجانين فعلياً, فأغلبية هؤلاء كانوا قتلةً قام أقرباؤهم برشوة المسؤولين من أجل وضعهم في المصح وتخليصهم من حبل المشنقة. هؤلاء بالذات كانوا يدركون إلى حد ما لماذا قُسّمت الهند وماذا تكون باكستان لكن مع ذلك كانوا على جهل بما يجري على أرض الواقع. فالجرائد لا تفي الموضوع حقّه، والحرس كانوا أميين جهلة ولم يكن بالإمكان استخلاص أيَّ شيء مفيد من أحاديثهم. جلّ ما كانوا يعلمونه هو وجود رجل اسمه محمد علي جناح يلقبه الناس بالقائد الأعظم، وبأنه يقوم ببناء دولة مستقلة للمسلمين وحدهم تدعى ”پاكِستان“. حتى من لم يكن فاقداً لعقله تماماً، وقع في حيرة تحديد موقع تواجده على أرض الواقع: هل هو حالياً في الهند أم في باكستان؟ إذا كان في الهند فأين تقع باكستان وإذا كان في باكستان كيف يعقل ذلك وقد عاش طوال حياته معتقداً أنه في الهند؟انجرف أحد المجانين في معمعة هِندوستان-پاكِستان پاكِستان-هندِوستان هذه التي شغلت تفكيره حتى فاقمت من حدة جنونه. وفي أحد الأيام حين كان يكنس الأرض، تسلق شجرة وجلس على أحد أغصانها وراح يخطب لمدة ساعتين متواصلتين عن كل المسائل الحساسة التي تخص الهند وباكستان. وعندما أمره الحراس بالنزول صعد إلى الأعلى وعندما قاموا بعدها بتحذيره ثم تهديده، قال لهم: ”لا أريد العيش لا في الهند ولا في باكستان. سأعيش هنا على هذه الشجرة.“ بعد عناء طويل وحين خفّت حدة غضبه، نزل من أعلى الشجرة وراح يبكي ويحتضن أصدقاءه الهندوس والسيخ٠ لقد انفطر قلبه من احتمال انفصالهم عنه ورحيلهم إلى الهند.
كان بين المجانين مهندس راديو مسلم حاصل على درجة الماسجتير. وكان من عادته أن يقضي نهاره وهو يتمشى بصمت وحيداً في الحديقة. فجأة وفي أحد الأيام خلع كل ثيابه وأعطاها لرئيس الحرس وراح يتجول في الحديقة عارياً تماماً.
وكان من بين المجانين أيضا مسلم بدين من بلدة چينِيوت - ناشطٌ سابق في حزب المسلم ليغ٤ -و صدف أن كان اسمه محمد علي. فجأة قام بالتخلي عن عادته بالاستحمام خمس أو ستّ عشرة مرة في اليوم وأعلن نفسه محمد علي جناح القائد الأعظم على بقية المجانين. انتقلت العدوى فأعلن مجنون من السيخ أنه القائد الأعظم أيضاً. وسط هذه الفوضى والجنون كادت أن تُسفك الدماء فسارع المسؤولون إلى عزل الإثنين عن بعضهما البعض وتصنيفهما كمجنونين خطيرين. هناك محامٍ هندوسي شاب من لاهور كان قد فقد عقله بعد فشله في تجربة حب. عندما وصله خبر انضمام مدينة أَمرِتسار٥ إلى الهند حزن حزناً شديداً لأنّ محبوبته من هذه المدينة بالذات. فهو لم ينسَها بعد بالرغم من جنونه ورفضها له. لذلك راح يشتم كل الزعماء الهندوس والمسلمين الذين تواطأوا على تقسيم الهند إلى قسمين، فأصبحت محبوبته هندية وهو باكستانياً. ثم عندما شاع الحديث عن تبادل المجانين، قام بعضهم بطمأنة المحامي وقالوا له بألا يحزن لأنه سيُنقل إلى الهند حيث توجد حبيبته. لكنه مع ذلك رفض مغادرة لاهور لأنه أعقتد أنه لن ينجح في ممارسة مهنته هناك٠
وهناك أنكلو-هنديّان٦ مجنونان في الجناح الأوروبي للمصح، صُعقا عندما علمَا بأنّ الإنكليز منحوا الهند استقلالها ورحلوا. اختليَا بأنفسهما لساعات طويلة وراحا يناقشان مكانتهما في ظل الوضع الجديد. هل سيبقى الجناح الأوروبي للمصح قائماً أم أنه سيُنسف؟ هل ستستمرّ الإدارة في تقديم ”البريكفاست“ لهما وهل يا ترى سيستبدل الخبز الإفرنجي فيُكرَهان على تناول الـ“بْلودي إينْدِيان چَپَاتي"٧
هناك سيخيٌ كان قد دخل المصح منذ خمسة عشر عاماً. وكان لسانه ينطق بالفاظ غريبة عجيبة مثل: ”أوپَر دي گَر گَر دي أنيكس دي بي دهيانا دي مَنگ دي وال أوف دي لالتين“٨. لم يكن ينام في الليل أو في النهار. ويروي الموظفون بأنه طوال مدة مكوثه لم ينم أو حتى يستلقي لحظة واحدة، إلا في بعض الأوقات التي كان يتكئ فيها إلى الحائط. وبسبب وقوفه الدائم انتفخت قدماه وتورّم كاحلاه٠ ومع ذلك لم يكن يستلقي ليرتاح. وعندما دارت الأحاديث في المصح حول تبادل المجانين كان يصغي بتمعن. وإذا سأله أحد عن رأيه في الموضوع كان يجيب بكل جدية: ”أُوپَر دِي گَر گَر دي أَنيكْس دي بَي دهيانا دي مَنْگ دي والْ أُوف دي پاكِستان گَوَرْمِينْت."٩“
ثم استبدل لاحقاً عبارة "حكومة توبه تيك سينغ"، هي القرية التي جاء منها، مكان حكومة باكستان، وراح يسأل المجانين عن موقعها٠ لكن أحداً لم يعرف أين تقعُ أفي الهند أم في باكستان؟ وعند محاولتهم شرح ذلك له، ضاعوا في هذه الحلقة المفرغة. فمدينة سِيالْكوت التي كانت في الهند صارت اليوم - بحسبما تشير الأنباء - في باكستان. ومن يدري، فلاهور التي تقع في باكستان اليوم قد تصبح في الهند غداً. أو ربما تنضمّ الهند بأكملها إلى باكستان لاحقاً؟ ومن يستطيع تقديم أي ضمانة بأن الهند وباكستان ستبقيان أسعادت حسن منتو: قصة قصيرةصلاً على وجه المعمورة؟
وكان شعر هذا المجنون السيخي قد تساقط حتى بات خفيفاً جداً. لم يكن يستحمّ إلا نادراً، فتشابك شعر لحيته بشعر رأسه حتى صار شكله مثيراً للرعب والإشمئزاز. ومع ذلك لم يكن مؤذياً فطوال خمسة عشر عاماً قضاها في المصح، لم يتشاجر مع أحد قط. كل ما كان يعرفه الموظفون القدامى عنه بأنه كان صاحب أراضٍ في توبه تيك سينغ ورجل إقطاع ميسور الحال، فقد عقله فجأة، فقيّده أقرباؤه بسلاسل حديدية ضخمة وأتو به إلى المصح. كانوا يزورونه مرة في الشهر ليطمئنوا عليه ثم يرحلون. واستمر الحال على ذلك إلى أن بدأت الاضطرابات الهندو-باكستانية فانقطعت زياراتهم.
اسمه بيشَن سينْغ ولكنّه كان يُعرف بتُوبَه تَيك سينغ. لم تكن لديه أدنى فكرة عن تاريخ اليوم أو الشهر أو حتى كم سنة مضت عليه في المصح. مع ذلك، كان يدرك موعد زيارة أقربائه له كل شهر فكان يخبر الحارس بذلك. وفي ذلك اليوم يستحم ويفرك بدنه بالصابون جيداً ويدهن رأسه بالزيت ويمشط شعره ويرتدي ثيابه النظيفة التي لم يكن يرتديها في العادة ويخرج للقاء زوّاره وهو في أحسن حلة. وإذا سألوه شيئاً كان يلوذ بالصمت أو يكرر جملته المعتادة: ”أوپَر دي گَر گَر دي أنيكس دي بي دهيانا دي مَنگ دي وال أوف دي لالتين.“
كان لبيشَن سينغ ابنة وحيدة. كبرت خلال إقامته في المصح وصارت شابة، لكنه لم يكن يتعرف إليها. حين كانت طفلة كانت تنفجر بالبكاء عند رؤية أبيها وظلت عيناها تدمعان لرؤيته عندما كبرت.
عندما بدأ خبر التقسيم يشيع، راح بيشن سينغ يسأل باقي المجانين أين تقع قريته توبه تيك سينغ. وعندما لم يلقَ جواباً يطمئنه أخذ يضطرب أكثر فأكثر، خاصة بعد انقطاع زيارة أقربائه له. في السابق كان يدرك من تلقاء نفسه موعد زياراتهم، لكن حتى ذلك الصوت الداخلي الذي كان يُعلِمه بقدومهم انطفأ الآن. كان يتمنى زيارتهم، أولئك الذين يعطفون عليه ويجلبون له الأزهار والملابس والحلوى، فلو سألهم أين تقع توبه تيك سينغ أفي الهند أم في باكستان، فمن المؤكّد أنهم كانوا سيجيبونه، لأنّه كان يعتقد أنهم يأتون إليه مباشرة من قريته التي يملك فيها أراضٍ شاسعة.
مجنون آخر في المصح أعلن أنه هو الله. عندما سأله بيشن سينغ يوماً أين تقع توبه تيك سينغ قهقه كعادته وأجاب: ”ليس في باكستان أو في الهند، لأنني حتى الآن لم أصدر قراراً بشأنها.“ توسّله بيشن سينغ عدة مرات لإصدار هذا القرار لكن هذا الإله كان منشغلاً بإصدار قرارات أخرى لا تعدّ ولا تحصى، حتى نفذ صبر بيشن سينغ في يوم من الأيام وصاح بهذا الإله مردداً جملته المعتادة: ”أوپر دي گر گر دي أنيكس دي بي دهيانا دي منگ وال أوف واهِه گورو جي دا خالصه آند واهِه گورو جي دي فتح... جو بولِه سُو نِهال, سَت سِري آكال“١٠ وربما قصد بها هذه أن يقول: ”أنت إله المسلمين، فلو كنت إله السيخ أيضاً لاستجبت لي.“
قبل حلول موعد التبادل ببضعة أيام، أقبل صديق مسلم من توبه تيك سينغ لزيارته للمرة الأولى في المصح. عند رؤيته أدار بيشن سينغ ظهره وراح يبتعد فأوقفه الحرس وقالوا له: ”هذا صديقك فضل الدين جاء لزيارتك.“
نظر بيشن سينغ إلى فضل الدين لوهلة وأخذ يبربر. اقترب منه فضل الدين وربّت على كتفه قائلاً: ”كنت أنوي زيارتك منذ عدة أيام ولكن الفرصة لم تسنح لي . لقد وصل كل أقربائك إلى الهند سالمين وقد ساعدتهم قدر استطاعتي. ابنتك رُوپ كاور. . . “ هنا انقطع عن الكلام. بدا بيشن سينغ كأنه يتذكر شيئاً: ”بنتي روپ كاور!“
ثم قال فضل الدين بتردّد: ”نعم. . . هي. . . هي أيضاً بخير. لقد رحلت معهم.“
بقي بيشن سينغ صامتاً، فواصل فضل الدين كلامه قائلاً: ”لقد أوصوني بأن أتردد عليك باستمرار وأطمئن عليك. سمعت للتو بأنك راحل قريباً إلى الهند. أرسل تحياتي لأخي بَلْبير سينغ وامرأته ڤِدْهاڤا سينغ. . . وأيضاً إلى أختي اِمرَت كاور. طمئنْ بَلبير وأخبره بأن أخاه فضل الدين بخير وأحواله جيدة.
وقل له بأن الجاموستين اللتين تركهما قد أنجبتا أنثيين, الأولى لا تزال على قيد الحياة والثانية ماتت بعد ستة أيام من ولادتها. وأنا جاهز لأي خدمة أخرى. وها قد أحضرت لك قليلاً من المكسّرات.“
تناول بيشن سينغ كيس المكسرات وأعطاه للحارس الواقف بقربه ثم سأل فضل الدين: ”أين تقع توبه تيك سينغ؟“
ذهل فضل الدين وأجاب بحيرة: ”أين تقع توبه تيك سينغ؟ إنها حيث كانت ولما تزل أبداً!“
كرر بيشن سينغ سؤاله: ”هل تقع في الهند أم في باكستان؟“
تملكت الحيرة فضل الدين فأجابه متخبطاً: ”في الهند. . . لا لا. . . أقصد في باكستان.“
تركه بيشن سينغ مغمغماً: ”أوپر دي گر گر دي أنيكس بي دهيانا دي منگ دي وال دي أوف دي پاكستان آند هندوستان أوف دي دَر فِته مُنْه.“
تمت استعدادات التبادل على أكمل وجه. سُلّمت قوائم المجانين القادمين من هناك إلى هنا ومن هنا إلى هناك وحُدّد الموعد. كان البرد قارساً عندما انطلقت الشاحنات المكتظة بالمجنانين الهندوس والسيخ من مصح لاهور تحت حراسة الشرطة وقد رافقهم أيضاً الضباط المسؤولون عنهم. اجتمع ضابطان رفيعان على نقطة ”واغاه“ الحدودية من كلا الطرفَين وبعد أن أنهيا الإجراءات الأولية، ابتدأ التبادل الذي استمرّ ١١طوال الليل.
كان إنزال المجانين من الشاحنات ونقلهم إلى الضباط على الطرف الآخر أمراً شاقاً جداً، فبعضهم رفض النزول بتاتاً. حتى الذين وافقوا على النزول كان من الصعب التحكم بهم إذ بدأوا يركضون في كل الاتجاهات. كان العراة منهم الذين أُلبسوا الثياب يمزقونها وبعضهم الآخر يتفوّه بالشتائم أو يغني وأصبحوا يتشاجرون فيما بينهم. يبكون ويتقافزون. لقد جعل ضجيجهم سماع أي صوت مستحيلاً. كان صراخ النساء المجنونات وضوضاؤهن شيئاً مختلفاً وكانت الأسنان تصطكّ من شدة البرد.
لم يدرك معظم المجانين معنى عملية التبادل هذه, فلمذا يُقتلعون من أماكنهم ويُرمون إلى مكان ناءٍ آخر؟ البعض الذي أدرك قليلاً ما يحصل أطلق شعارات مثل ”پاكستان زِندَە باد!“ أو ”پاكستان مُردَە باد!"١٢ وكادت الأمور تصل إلى الشغب مرتين أو ثلاث مرات بعد أن غضب بعض المسلمين والسيخ من سماع مثل هذه الشعارات.
عندما جاء دور بيشن سينغ في التبادل، أخذ الضابط المختص يدرج اسمه في السجلّ. سأله بيشن سينغ:
”أين تقع توبه تيك سينغ، في الهند أم في باكستان؟“
فأجابه الضابط ضاحكاً: ”في باكستان طبعاً...“
عندما سمع بيشن سينغ ذلك، أجفل متراجعاً نحو زملائه المتبقين على الطرف الباكستاني. أمسك به الجنود الباكستانيون وحاولوا جرّه إلى الطرف الآخر لكنّه قاومهم قائلاً : ”إن توبه تيك تيك سينغ تقع هنا!“ وبدأ يصرخ بصوت عالٍ: ”أوپر دي گر گر دي أنيكس بي دهيانا دي منگ دي وال أوف توبه تيك سينغ آند پاكستان!“
حاولوا جاهدين إقناعه بأن توبه تيك سينغ قد رحلت الآن إلى الهند وإن لم تكن قد رحلت بعد، فسيتمّ نقلها فوراً إلى هناك, لكنه لم يقتنع. ثم عندما حاولوا جرّه عنوةً إلى الطرف الآخر، وقف غارساً قدمَيه المنتفختين في بقعة تقع بين حدود الدولتين. بدا وكأن ليس بإمكان أي قوة مهما كانت جبارة أن تهزّه من مكانه. وبما أنه لم يكن يُعتبر إنساناً خطيراً، فلم يحاولوا أكثر وتركوه واقفاً مكانه وتابعوا عملية التبادل.
قبيل طلوع الشمس وسطَ هدوءِ ما قبل الفجر، أطلق بيشن سينغ صرخة مفاجئة مزقت السكينة. هرع إليه الضباط من كل حدب وصوب ونظروا إليه، فرأوا ذلك الرجل الذي بقي واقفاً على قدميه طوال خمسة عشر عاماً, منبطحاً على وجهه. هناك، وراء الأسلاك الشائكة، تقع الهند. وهنا أيضاً وراء نفس الأسلاك، تقع باكستان. وفي هذا الوسط اللامكان، على تلك البقعة المجهولة الاسم، ظلّ توبه تيك سينغ منبطحاً.
[ .ترجمة سونيلا موباي. مع الشكر لإلياس خوري وأمامة حميدو]
----
١. "زميندار" كلمة تعني ”صاحب إقطاع“ في إشارة إلى الانتماء الطبقي لهذا المجنون
٢. عبارة احترام بين السيخ تستعمل أثناء المخاطبة
٣. تحيا باكستان
٤. ”عصبة المسلمين“ - الحزب الذي كان يرأسه محمد علي جناح
٥. مدينة في إقليم پنجاب لا تبعد كثيراً عن لاهور ولكنها وقعت على الطرف الهندي من الحدود المرسومة
٦. شخص من أصل إنلكيزي وهندي مختلط عادة ولد لأب أنكليزي وأم هندية تتم معاملته كأوروبي حسب القانون البريطاني في الهند
٧. ”الخبز الهندي اللعين“ نُطقت العبارة بالإنكليزية. "الچپاتي" هو الخبز الهندي التقليدي يشبه ”الخبز العربي“
٨. هذيان مجنون لا معنى له وتشبه الأصوات كلمات باللغة الپنجابية للقارئ الهندي
٩. ”حكومة باكستان“, نطق العبارة بالانكليزية معدّلاً آخر هذيانه المعتاد
١٠. التشهّد في الصلاة عند السيخ بمثابة ” أشهد ألا إله إلا الله...“ عند المسلمين. يلاحظ أنه ترد فيه كلمتا ”خالصة“ و ”فتح“ العربيتان
١١. واگاه هي قرية في إقليم پنجاب تبعد عشرة كيلومترات. عن مدينة لاهور ويقع فيها المعبر الحدودي بين الهند وباكستان
١٢. الموت لباكستان